لطالما رُبط التصوف بالبعد الروحي في الإسلام، إلا أن لفظة “التصوف” لا تبدو بأنها استُخدمت حتى سنوات لاحقة بعد أن تأسس الإسلام. ما هو إذًا تاريخ التصوف ومن أين نشأ؟
في كل زمان ومكان، كان هناك أشخاص يدفعهم التلهف العميق والتعطش الباطني إلى قضاء وقت في التفكر أو الصلاة أو العزلة. ومثل هؤلاء كان النبي محمد g، الذي كان يلجأ بشكل دوري إلى غار خارج مكة –حتى قبل أن ينزل عليه الوحي- لينقطع لعبادة الله.
ثم لاحقًا ومع ظهور المجتمعات الإسلامية الأولى، نزع أيضًا بعض من صحابة رسول الله g نحو أعمق ما يمكن من التحقق والإفصاح عن محبة الله. يذكر القرآن الكريم: “إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ”.
إن التوجيهات التي تشكل القاعدة للممارسات الصوفية موجودة في القرآن الكريم وفي تعاليم رسول الله g. فعلى سبيل المثال، قام الرسول g بتعليم “الذكر الخفي” لصاحبه أبي بكر h (ت:634م) أثناء لجوئهما لغار حراء في طريق الهجرة من مكة إلى المدينة.
وكذلك يمكن تتبع “الذكر الجلي” في توجيهات الرسول g لزوج ابنته وأول من أسلم علي بن أبي طالب h (ت:661م).
ولطالما ألهمت رحلة معراج الرسول g الصوفيين كاستعارة لما يكون عليه الطريق الروحي. أُسري بالرسول g من مكة المكرمة إلى القدس الشريف، ومن القدس الشريف إلى السماوات السبع، مترقيًا لمقام قاب قوسين أو أدنى. وكذلك يسعى الصوفي السالك إلى التقرب من الله تعالى وإلى تجاوز حدود الزمان والمكان.
هذه الأمثلة وغيرها تشير إلى وجود عنصر باطني عميق في حياة الرسول g آنذاك.
شاع إرتباط ظهور أول من أُطلق عليهم “الصوفيين” بالتطورات التاريخية في القرنين الميلاديين السابع والثامن. ففي الفترة بين عامي 622 و 632 للميلاد، أسس الرسول g في المدينة المنورة مجتمعًا يعكس المبادئ الإسلامية كالمساواة والعدل والشورى والتقوى والقيادة الدقيقة. وبعد وفاته g ، تابع الخلفاء الراشدون الأربعة توجيهاته جيدًا وحكموا الدولة الإسلامية مترامية الأطراف وفقًا لتعاليم القرآن الكريم وسنة الرسول g.
وفي خلال مئة سنة بعد الهجرة النبوية الشريفة، خرجت قيادة الدولة الإسلامية من يد رجالها المخلصين. حينئد لاحظت بعض الجماعات الإسلامية أن قادتهم قد انغمسوا في المغريات الدنيوية والمطامع الشخصية. ونتيجة لذلك، قام الكثير من المشهود عليهم بالتقوى والصلاح بقطع علاقتهم مع نظام الحكم بشكل كامل. وفي القرن الثاني بعد وفاة الرسول g، أُطلق على بعض أولئك الذين رفضوا سلطة الحكم الدنيوي اسم “الصوفية”. وكان الشيخ الفارسي أبو هاشم الكوفي r (ت: تقريبًا 776) أول من أُطلق عليه هذا اللقب. وفي الفترة ما بين 660 و850م ظهرت أولى الجماعات الصوفية.
صادفت المرحلة الثانية لإنتشار التعاليم الصوفية فترة مهمة جدًا في التاريخ الإسلامي، وهي الفترة من عام 850م وحتى القرن العاشر الميلادي. شاعت العلوم والفلسفة اليونانية بين المسلمين آنذاك، وتعرض المجتمع الإسلامي لعاصفة المذهب العقلاني. وجد عامة الناس أن عقائدهم تزعزعت من أساسها وأن الشكوك بدأت تهاجمهم. وفي محاولة لمواجهة تأثير هذه الفلسفات، أكد الشيوخ الصوفيون على عقيدة “العشق” وعلى ما يتحقق من مقامات من خلال حالات القلب الروحية.
وكانت المرحلة الثالثة لتطور التصوف في القرن العاشر الميلادي. حاول حكماء هذا العصر إعادة إيقاظ الروح الدينية التي يمكن أن تتغلغل في حياة الناس اليومية. لقد أدركوا أن السلوك البشري لن يتغير طالما كانت قلوب البشر مستنزفة في مشاغل الدنيا. كما أكدوا على أهمية تزكية النفس، مساهمين بذلك في إرشاد الناس إلى تجاوز التكييف الذي تأتي به المشاغل الدنيوية والتفكير العقلاني. فساعدوا الناس في إنعاش حياتهم الباطنية عن طريق رسم إطار وقواعد سلوكية لحياتهم الخارجية من الناحية المعنوية والأخلاقية.
وفي الفترة بين القرنين العاشر والثاني عشر، أصبح التصوف علمًا يُشهد له بالتقدير على نحو واسع. قام الكثير من عظماء المفكرين والشيوخ الصوفيين بالتدريس في تلك الفترة، مما ساهم في تأسيس التمارين والمصطلحات الصوفية. وهكذا تأسست مجموعة من الطرق الصوفية.
وبنهاية القرن الثالث عشر الميلادي، أصبح التصوف علمًا روحيًا واضح المعالم. من خلال التجربة والتحقيق، طوّر الشيوخ مناهج قابلة للنقل من أجل تزكية النفس، وهي المناهج التي أكد على فاعليتها الكثير من المريدين. ثم أصبحت الطرق الصوفية الأساس للحراك الصوفي الذي توسع في الإنتشار، مساهمة بذلك في بث الحياة من جديد في سعي الإنسانية القديم نحو النمو الروحي.